في السادس من شهر آب من كل عام ، يحيي اليابانيون الذكرى الدموية لجحيم القنبلة الذرية التي ألقيت على مدينة "هيروشيما"
من قبل الجيش الأمريكي عام 1945
وبعد ثلاثة أيام تم إلقاء قنبلة ذرية أخرى على مدينة " ناغازاكي" مما أدى إلى استسلام اليابان وانتهاء الحرب العالمية الثانية .
قنبلة هيروشيما
ففي الساعة الثانية والنصف من السادس من شهر آب عام 1945 أقلعت القاذفة الأمريكية "بي 2جي" التي أطلق عليها اسم "اينولاغاي" من المطار العسكري الأمريكي "تينيان" في جزر "الماريان" باتجاه اليابان.
قائد الطائرة "تيبتز" الذي يتدرب منذ أشهر على هذه المهمة، هو الوحيد من طاقم هذه الطائرة الذي يعرف طبيعة القنبلة التي تزن 4 أطنان والتي تم إلقاؤها على هيروشيما.
وبعد 45 ثانية فقط وعلى ارتفاع 600م فوق مركز المدينة انفجرت تلك القنبلة، وفي هذه اللحظة اصطدمت كتلتان من اليورانيوم 235 داخل القنبلة ببعضهما البعض نتيجة هذا الانفجار فارتفعت حرارة تلك الكتلة من الوقود النووي وتتالت التفاعلات النووية والانشطارات كالبرق، حيث انفجرت النوى الأولى من اليورانيوم لافظة النيترونات بعنف وأخذت هي بدورها تدمر النيترونات المجاورة محدثة سلسلة من الانشطارات الجديدة في تلك النوى، واحتدمت شدة الانفجاريات لتبلغ قوتها 24 اس 10 نواة من اليورانيوم القابل للانشطار.
كل ذلك حدث في زمن لا يتعدى جزء من الألف من الثانية، ولأول مرة في تاريخ البشرية تتحول المادة إلى طاقة في غاية الضخامة.
إن تدمير ما يربو قليلاً عن الكيلو غرام الواحد من اليورانيوم يحرر 13600 طن من مادة "تي إن تي" الشديدة الانفجار والمركزة في مجال ضيق جداً، فلقد بلغت الحرارة عدة مئات من ملايين الدرجات المئوية وبلغ الضغط عدة مئات من الملايين.
فلقد أعادت تلك القنبلة إلى الأذهان الشروط المناخية السائدة داخل الشمس ولكنها هذه المرة كانت أشبه بشمس الموت وأطلق الأمريكيون على تلك القنبلة التي ضربت هيروشيما اسم الصبي الصغير، والقنبلة التي أطلقت على ناغازاكي اسم الرجل البدين وأما الطاقة التي تولدت من هذا الانشطار النووي تحررت وفق ثلاث طرق على الشكل التالي: 35%طاقة حرارية، 50% أمواج هائلة من السنة اللهب ، 15% على شكل إشعاعات نووية.
فمنذ اللحظة الأولى للانفجار انتشرت الطاقة الحرارية على شكل وميض أبيض خاطف من الإشعاعات السينية "أشعة اكس" التي حولت الهواء إلى كتلة من اللهب على مسافة تقدر بحوالي 1كم وحرارة تقدر بعدة ملايين من الدرجات المئوية ولمدة لا تتجاوز الثواني فوق هيروشيما، فانتشرت موجة من الحرارة بسرعة الضوء والتهمت كل شيء أمامها.
وعلى الأرض بلغت الحرارة عدة آلاف من الدرجات المئوية في نقطة التصادم وفي قطر كيلو متر واحد تبخر كل شيء تلقائياً واستحال إلى رماد، وعلى مسافة 4كم التهمت النار الأبنية والناس تلقائياً وعلى بعد 8 كم من مركز الانفجار وصلت حروقات من بقي حياً إلى الدرجة الثالثة.
وقد تولد إثر ذلك موجة من الصدمة ولّدها الضغط نتيجة تمدد الغازات الحارة وتقدمت بسرعة تقارب 1000كم /سا وتكّون جداراً صلباً من الغازات على شكل كرة ورافق ذلك رياح عنيفة حملت الحطام والأنقاض تغذيها أمواج من ألسنة اللهب التي أحالت كل شيء إلى رماد في قطر يقدر بحوالي 2كم، فلقد دمر 62 ألف مبنى من أصل 90 ألف مبنى.
أما تأثير الانفجار النووي فهو الأكثر غرابة، ولكن ليس الأقل فتكاً ألا وهو الإشعاع، إن الإشعاعات الصادرة مباشرة عن الانشطارات النووية تتشكل بصورة رئيسية من النيترونات ومن أشعة غاما، وبالإضافة إلى تأثيراتها الرهيبة على العناصر الحية فإنها تنشر العدوى لدى العناصر المختلفة مثل مادة اليود، الصوديوم، السيترونيوم التي أصبحت هي بدورها عناصر مشعة.
هذا الإشعاع الثانوي المعروف على نطاق ضيق منذ خمسين عاماً هو أيضاً مثير للرعب أكثر من غيره وخاصة أنه يسبب جميع أنواع السرطانات وتأثيراته لا تظهر إلا بعد فترة وأحياناً تمتد لسنوات.
قنبلة ناغازاكي
وفي التاسع من آب 1945 ألقيت قنبلة نووية ثانية من البلوتونيوم المشع، هذه المرة لتدمر مدينة ناغازاكي اليابانية.
وفي اليوم التالي للانفجار أي في العاشر من آب 1945 استسلم الإمبراطور الياباني "هيروهيتو" دون أية شروط.
وحسب التقديرات في نهاية عام 1945 قدرت ضحايا قنبلة هيروشيما بحوالي 140 ألف نسمة وأما قنبلة ناغازاكي فلقد بلغت ضحاياها 70 ألف شخص تقريبا.
كما أن عشرات الآلاف من الذين أصيبوا بجروح مختلفة لاقوا حتفهم تباعاً في السنين التي تلت هذه النكبة.
ردود الفعل الأولى لدى الرأي العام الأمريكي والعالمي عبرت عنها الصحف الصادرة آنذاك، فقد تصدرت عناوين عديدة كانت أهمها "الثورة العلمية"، "الثورة الاستراتيجية" ولكن الشيء الهام هو القنبلة الذرية والانتصار على اليابانيين ونهاية الحرب.
وكان الناس حينئذ يجهلون الإشعاعات النووية وآثارها وخاصة بعد انتهاء الحرب التي دامت ست سنوات من الحرمان والفظاظة والقصف.
أما القرار الرسمي لاستخدام القنبلة الذرية فقد صدر عن الرئيس الأمريكي "ترومان" بالذات معللاً قلق الأمريكيين على حياتهم خوفاً من غزو ياباني محتمل، وهناك دوافع أخرى بالطبع غير معلنة وهي هامة منها استعراض العضلات أمام الاتحاد السوفييتي سابقاً، واستخدام تلك التكنولوجية الحديثة التي كلفت أكثر من 2 مليار دولار فكانت بالنسبة لبعض الفيزيائيين أهم من اختراع النار.
والأغرب من ذلك أنه وجب ست سنوات على الأقل قبل التمكن من استخدام هذه النار النووية، فقبل 15 عاماً من هيروشيما كانت بنية الذرة مجهولة، وقبل سبع سنوات لم يكن يدرك أحد معنى الانشطار النووي.
إن صنع القنابل الذرية على المستوى الصناعي بعد بضعة أشهر من اكتشاف التفاعلات النووية المتسلسلة يشكل عملاً تقنياً باهراً فريداً من نوعه لم يكن قابلاً للإنجاز أو التطبيق مع الأسف إلا في الرهانات العسكرية الكبيرة.
العد العكسي بدأ في الواقع عام 1932 مع اكتشاف النيترون على يد الإنكليزي "جيمس شادنيك" الذي كشف عن بنية النواة التي تتألف من نوعين من الجزئيات: البروتونات والنيترونات.
وفي عام 1934 لاحظ كل من "أورين وفريدريك كوري " أن عملية قذف النواة التي تحمل جزيئات تمكننا من صنع نوى جديدة أثقل وغير مستقرة: ذاك هو مايسمى بإشعاع العناصر الاصطناعية.
وقد بدأ حينئذ الفيزيائي الإيطالي بعملية منهجية وذلك بقذف كافة النوى لمختلف العناصر حتى أثقلها وهو عنصر اليورانيوم، وهكذا فإن هذا الإيطالي كان الأول دون أن يعلم في إحداث انشطار ذرة اليورانيوم، وكان لابد من الانتظار حتى كانون الأول 1938 حيث أدرك كل من الفيزيائيين الألمانيين "ليز متنز" وابن أخته "أوتوفريش" اللاجئين آنئذ في السويد أن نواة اليورانيوم إذا ما تم قذفها بالنيترونات فإنها تنشطر إلى قسمين محررة بذلك طاقة هائلة ألا وهي الطاقة النووية.
إن التأثير الناتج عن هكذا اكتشاف كان كبيراً بالنسبة للفيزيائيين، وقد ظهرت بعد هذا الاكتشاف الهائل مباشرة إمكانية حدوث التفاعلات النووية بالتسلسل بطريقتين: أولاً إنتاج الطاقة إذا كان هذا التفاعل مرقباً وثانياً القنبلة إن لم يتم السيطرة عليها.
فكان الفيزيائي الهنغاري "ليوزيلارد" الذي هاجر إلى الولايات المتحدة قد شعر حالاً بالقوة التدميرية لهذه الاكتشافات وهو يدرك مدى الخطر النازي في ألمانيا والمستوى العلمي العالي في ألمانيا، فأسرع بإقناع " اينشتاين" بإنذار الرئيس الأمريكي "روزفلت" بما يحدث.
ولذا فقد أرسل "أينشتاين" بكتابه الشهير المؤرخ في 2 آب 1939 ينادي بوجود شكل جديد من الطاقة التي تستخدم في القنابل ونصحه بالسعي للحصول على اليورانيوم وتشجيع الأبحاث المتعلقة بهذه الطاقة.
وبهذا الشكل يكون "روزفلت" قد اقتنع بوجوب امتلاك القنبلة قبل ألمانيا وشكلت لهذه الغاية لجنة وتابع الباحثون أعمالهم في المخابر الأمريكية واتضح أن هناك طريقتين لإمكانية انشطار الذرة:
طريقة اليورانيوم :
فقد تبين أن العنصر الذي يحوي على نظير واحد هو نادر نسبياً أي اليورانيوم 235 القابل للانشطار وبالتالي يجب فصل هذا النظير عن باقي اليورانيوم.
طريقة البلوتونيوم :
إن هذا العنصر الجيد الذي لا يوجد في الطبيعة أمكن الحصول عليه بقذف نوى اليورانيوم 238 النظير المتوفر بكثرة وقد تبين أنه ينشطر بسهولة وبقيت مسألة إنتاجه بكميات كافية.
وتسارعت الأحداث في نهاية عام 1941، وفي هذه الأثناء، أظهرت أعمال الفيزيائيين أن بضع كيلو غرامات من اليورانيوم 235 كافية لإنتاج قنبلة ذرية، وأنه من الممكن فصل نظائر اليورانيوم بطرق فيزيائية مختلفة.
لقد أعيد كلياً تنظيم البحث الذري وفي آب 1942 عهد بصنع السلاح الذري إلى إدارة خاصة تشرف عليها القوات المسلحة الأمريكية بقيادة الجنرال "غروفز" وأطلق على المشروع رمز مشروع "مانهاتن" وقد رصدت لهذا المشروع مبالغ طائلة فوضع له برامج ومواعيد وجند الآلاف من المهندسين والخبراء والعلماء والفنيين ومن بينهم العديد من المهاجرين إلى الولايات المتحدة.
ومنذ الثاني من كانون الأول لعام 1942 تم بناء أول مفاعل نووي في العالم في مدينة شيكاغو ثم بدئ ببناء ثلاثة مفاعلات ذرية كبرى لإنتاج البلوتونيوم وكذلك ثلاثة مصانع لفصل البلوتونيوم، وقد جند لهذه المصانع 45 ألف عنصر وكان الهدف الثاني الأكبر هو فصل اليورانيوم 235 وقد استمر العمل فيه.
ففي عام 1943 تم بناء عشرات الوحدات الخاصة بهذا الفصل بواسطة الطاقة الكهرومغناطيسية عبر مصانع تنشر الغازات وأخرى تنشر الحرارة وذلك ببناء مصنع كبير يضم 2000 عمود طول العمود الواحد 15م.
إلا أن القنابل الذرية قد تم صناعتها وإنتاجها في المكسيك الجديدة في منطقة "لوس ألاموس".
ففي هذا المختبر الضخم تم العمل بسرعة وبسرية تامة حيث شارك فيه المئات من الفيزيائيين 20 منهم كانوا قد نالوا جائزة نوبل وآخرون غيرهم نالوا هذه الجائزة فيما بعد.
وفي 16 تموز 1945 تم تجربة أول قنبلة صنعت من البلوتونيوم في قلب صحراء "ألامو غوردو" وهي مثيلة القنبلة التي ألقيت على ناغازاكي.
ولم يكن هناك مجال لتجربة قنبلة اليورانيوم وذلك لعدم توفر العنصر 235 آنئذ، فالكمية المتوفرة كانت كافية فقط لقنبلة واحدة وهي التي ألقيت على هيروشيما، وفي بداية 1944 كان من الواضح أن هزيمة ألمانيا قريبة وأن القنبلة الذرية ستقلب الوضع، فلقد أصبحت اليابان الهدف الوحيد.
وكان بعض العلماء قد عبرّوا عن معارضتهم لاستخدام هذه القنبلة، وحاول غيرهم إقناع "تشرشل" و"روزفلت" بتأسيس لجنة للمراقبة الدولية لهذا السلاح.
وقد شكل مجلس علمي ضم العالم "أوبهايمر" وثلاثة علماء آخرين يحملون جائزة نوبل ، وأجمعت آراؤهم على استخدام هذا السلاح ضد اليابان لإقناع العالم بالخطر القائم، ثم أقر ذلك الرئيس الأمريكي "ترومان" الذي خلف "روزفلت" . وفي شهر شباط 1945 تم شحن أجزاء القنبلة المفككة بسرية تامة إلى جزيرة "تينيان" والنتيجة كانت تلك الكارثة السوداء التي لن تغيب عن الأذهان.
منقول